عندما تصبح النكبة مناسبة فولكورية، تنظم فيها حلقات الدبكة، وتوزع فيها طاولات المآكل الشعبية، وتروى فيها الشهادات الحية للناجين الذين يلوحون بالمفتاح الحديدي الشهير، تتحول فلسطين من قضية وهوية الى تراث وذكرى تبتعد يوما بعد يوم، وتخضع لقوانين الطبيعة الانسانية واهمها النسيان.
الذاكرة الفلسطينية لم تمت بعد، لكنها لم تعد تستطيع ان تصمد طويلا، ليس فقط لانها تصدر علامات الوهن، المرفقة في بعض الاحيان مع اشارات الاستغاثة، بل لانها تفتقر الى العناصر التي يمكن ان تجدد الفكرة والمشروع، وتتقاطع مع موجة عربية عارمة كانت في يوم من الايام تعتبر فلسطين عنوان الحرية والاستقلال والسيادة، وايضا بوابة الوحدة.
هي لحظة انتقالية حرجة في التاريخ الفلسطيني، تتوج نضالا عسكريا وسياسيا امتد على مدى العقود الستة الماضية، وانتزع الاعتراف بوجود الشعب ثم ببقاء الارض، وبذلك الرباط المقدس بينهما الذي مسته تجربة الاعوام الاولى من الغزو الصهيوني.. ليس هناك خداع في القول الحائز الان على اجماع عربي ودولي لم يسبق له مثيل بان الدولة المستقلة، هي حق لم يعد يقبل التصرف. لكن هناك احساسا يكاد يحظى بالاجماع ايضا على ان تلك الدولة صارت بعيدة اكثر من اي وقت مضى.
مفارقة غريبة. ان تتحول تلك الدولة الى مطلب عربي لتلك الدول التي لم تكن يوما تشعر بمسؤولية خاصة او بود خاص تجاه فلسطين او قيادتها او حتى شعبها، والى شعار دولي تلح عليه عواصم وشعوب شاركت في الجريمة الاولى وغطتها وساهمت في تمديد مفاعيلها. بينما يجد الفلسطيني الاسير في الداخل او في المنفى نفسه، غير قادر او غير جاهز لتلقي تلك الهدية التي لا تقدر بثمن، والتي ينتظرها منذ اكثر من ستين عاما.
وتصبح المفارقة عجيبة عندما تتحول تلك الدولة الى ذريعة اسرائيلية، والى ورقة للتفاوض مع الغرب على سبل مواجهة الخطر الاسلامي او الايراني. فيقرر الاسرائيليون تكليف اكثرهم تشددا الخوض في ذلك البحث التاريخي عن حدود العلاقة بين الدولتين.. بعدما سلموا بان الحملة العالمية التي تضغط من اجل ذلك الحق الفلسطيني اقوى بكثير من قدرتهم على التعطيل او التملص، وبعدما ادركوا ان ذلك الحق هو مشكلة اسرائيلية غربية اكثر مما هو مسألة اسرائيلية فلسطينية او عربية.
يكاد الفلسطيني يكون غير موجود او غير مرئي. وهو كذلك بالفعل. لم يشهد تاريخه مثل هذا الانقسام، ولا تلك المسافة بين الداخل والخارج، او بين الضفة الغربية وقطاع غزة ، او بينهما وبين ما يسمى بأراضي الـ48. لم يسجل في تجربته مثل هذا الفراغ السياسي الذي يسده فريق يتوسل التعايش بطريقة تفسح المجال لفكرة الاندماج في الدولة الاسرائيلية الواحدة، وفريق يعلنها مقاومة صورية بمفعول رجعي يبدد كل ما راكمه المقاومون على مدى العقود الماضية.
لم يعد لدى الفلسطيني ما يقوله او يقدمه سوى ذلك الفولكلور الذي يحفظ القضية التراثية..