الحضارة كل متكامل من كل ما يتعلق بحياة الناس ولا يمكن أن نجزئها إلى ممنوع ومسموح حسب أهوائنا حتى ولو كان التجزيء باسم الدين نفسه ( وهو قالب الحضارة العام ) إلا حسب قوانين ذات طبيعة مرنة ومستعدة لتناول القضايا بطبيعة علاقتها بالزمان والمكان . أما أن نلبس الزمان ثوب الزمان ونحبس الفكر ـ بشموليته ـ في قوالب ثابتة تحيل عقل العاقل إلى مستجيب بدافع الحيرة لا بدافع الاقتناع فهذا ظلم ومصادرة واضحة لطبيعة العقل البشري .
فكما توجد علاقات بين جوانب الحياة المتعددة ينبغي أن تكون العلاقة ذاتها قائمة بين القوانين التي تحكمها، فالإنسان مثلا يعشق الطبيعة، والاستمتاع بها جزء لايتجزؤ من تكوينه الروحي ، إذا أتينا على كل تلك الاعتبارات بحجة أن الإنسان مخلوق للعبادة فقط وليس له أن يستغل وقته في الملذات واللهو واللعب ومالا يعني...الخ ، نكون ـ وبحجة الدين ـ صادرنا حقاً من حقوقه التي شرعها له الدين إذا كان فهذا الدين يخاطب و ينظم فطرة الإنسان وهذا على سبيل المثال وصعوبة الحصر .في الوقت الذي لا يجب فقط أن نبين له فيه ما هو مخول له بل يجب أن نجعله من صميم فكرة التوجيه ذاتها إذ هو جانب في الحقيقة منها فمن يتعب يحتاج إلى الراحة لكن الراحة ذاتها بحاجة إلى من يتعب . ولا يجوز أن يغتال أحد الاثنين على حساب الآخر وإلا فإن التركيب العضوي بين الجانب النفسي والجانب العضوي سيصاب باختلال لايمكن معالجته أيضا بأحد الاثنين دون الآخر.
إن الحضارة التي يراد منها أن تكون كذلك يجب أن تكون خالية من أسباب الميول العاطفي والتعصب الفكري وخاصة في عصر أصبحت الأفكار فيه معروضة كالسلع وأصبحت موضوعاً مبسطاً يتناول على جرعات صغيرة وخفيفة ولم يعد المجال مفتوحاً لتناول القضايا بعد طرحها ، فقد أصبح التأثر أسرع من أن تتداركه الانتقادات ، ففي برنامج تلفزيوني واحد كاستار أكاديمي مثلا تقوم الدنيا ولا تقعد بالنقد والتحقير للقائمين على مثل تلك البرامج ، لكننا في خضم تلك الحرب نسينا أو(تناسينا) البعد الحقيقي للقضية ـ كغيرها من القضايا المعاصرة ـ ماذا وضعنا للشباب مثلا حتى لا يقتدي بنجوم سوبر ستار أو ستار أكاديمي أو غيرها من البرامج الماجنة إن كل تحقير نكيله للقائمين على فكرة حقيرة كتلك هو بالضرورة تحقير نكيل ضعفيه لأنفسنا إذ نجعل أنفسنا في دائرة ضيقة ومحدودة هي دائرة الولولة والعجز عن أبسط أنواع التغيير .علينا قبل أن نبدأ في حرب كتلك أن نسأل أنفسنا بماذا أسهمنا في رسم خارطة المسلم الفكرية والثقافية المعاصرة وعن نصيبنا من مليء فراغه الوجداني والعقلي معا و هل استغلينا نهمه لوسائل الاتصال الحديثة وأقمنا دراسات بما يمكن أن تكون عليه علاقته بتراثه في ظل ظروف كتلك.ً
والسؤال كيف يمكن أن تصاغ شخصية الإنسان المسلم اليوم بعيدا عن جعل الدين ، ممارسة ومعتقدا ، وبشكل يلبي حاجته للفهم والتدبر بعيدا عن صورتي التقليد الأعمى للمجتمع أو خلق مكانة فيه بأسباب ذلك ، والسؤال نفسه ينطبق على الجانب الروحي فيه ،ففي بعض البلدان الإسلامية مثلا لا يزال ينظر إلى الرجل يصطحب زوجته في نزهة بشيء من الاستهجان في وقت لا علاقة للدين بتلك النظرة المتجذرة حتى في نفوس القائمين على أمر الدعوة ، .... وللموضوع شرح يطول في بابه .
هناك حلقات مفقودة في سلسلة الثقافة الإسلامية المعاصرة لايمكن تجاهلها أو إعادة تشكيل النسق الثقافي دونها ،وكما أن الإنسان كل متكامل في طبيعته وحاجاته المعقدة والمتغيرة ، فالحضارة لا ينبغي أن تكون أقل من ذلك في تلبية حاجاته وفهم طبيعته وتغيراته .